إلى جانب المعارك بين الميليشيات الدرزية وقوات النظام السوري الجديد، لكلٍّ من إسرائيل والشرع مصلحة في الحفاظ على مصداقيته، ما قد يؤدي إلى إطالة أمد النزاع في جبل الدروز، وربما إلى تدخل مباشر من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صراع طائفي
في 13 تموز، اختُطف أحد الدروز على يد مجموعة مسلّحة من العرب السنّة كانت تدير حاجزاً على الطريق. ينتمي هذا الفصيل إلى أقلية بدوية استقرت في جبل الدروز منذ عدّة عقود. النزاعات بين الدروز والبدو تتكرّر من حين لآخر. ففي عام 2001، قُتل أحد الدروز أثناء دفاعه عن حقله من قطيع جيرانه البدو، ما أدّى إلى مقتل عدد من الأشخاص واندلاع مظاهرة واسعة مناهضة للأسد من قِبل سكان جبل الدروز، الذين اتهموه بدعم البدو. اليوم، نجد أنفسنا في وضع مشابه إلى حدّ كبير، إذ إن النظام السوري الجديد يدعم بدو المنطقة ضد الميليشيات الدرزية التي ترفض أن يستعيد النظام السيطرة على محافظة السويداء، التي تُعرف بجبل الدروز. تضمّ هذه المحافظة نحو 350 ألف نسمة، يعيش منهم حوالي 150 ألفاً في مدينة السويداء، ويتكوّن أكثر من 90% من سكانها من الدروز. أما المسيحيون والعرب السنّة والبدو المستقرّون، فيشكّلون كلٌّ منهم حوالي 5% من السكان. ويقيم البدو في حيٍّ طرفي من مدينة السويداء، ويتوزّعون أيضاً في أنحاء الجبل، على هامش البلدات الدرزية.
مع وصول نظام إسلامي سنّي إلى السلطة، يشعر بدو جبل الدروز، وهم أيضاً من السنّة، بأنهم أصبحوا أقوى. إنهم يأملون أن يقوم النظام الجديد بنزع سلاح الدروز ومنحهم (أي البدو) السلطة في المنطقة. وقد يمكّنهم نموهم السكاني السريع وروابطهم القَبَلية الممتدة على مستوى سوريا من الاستيلاء على أفضل الأراضي في المستقبل القريب. كما أن السكان السنّة في درعا يطمعون بدورهم في جبل الدروز، ويريدون الانتقام من هذه الفئة التي بقيت، إلى حدّ كبير، موالية للنظام خلال الحرب. وإلى جانب ذلك، يُنظر إلى الدروز على أنهم زنادقة من قبل الإسلاميين. أما الفتوى التي أصدرها مفتي فلسطين عام 1932، والتي اعترفت بهم أخيراً كمسلمين – مثلما اعترفت بالعلويين – فهي لم تعد كافية لحمايتهم من الأصولية، خصوصاً عندما تمتزج هذه الأصولية بالجشع والطمع.
إعادة التوحيد بالسيف والدم
منذ بداية الاشتباكات في السويداء، اجتاحت قوات أمن النظام الجديد جبل الدروز بذريعة “إعادة فرض النظام”. لكن في الواقع، هدفها هو السيطرة على هذه المحافظة الدرزية، التي كانت بحكم الأمر الواقع تتمتع بحكم ذاتي، كما حدث في أيار في البلدات الدرزية في ضواحي دمشق. يطمح أحمد الشرع إلى إقامة جمهورية إسلامية موحّدة في سوريا، ولن يقبل بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي المحلي. وهذا النهج شائع بعد الحروب، حيث يتم السعي إلى توحيد البلاد ونزع سلاح الميليشيات لتأسيس جيش وطني. ويبدو أن الحكومة السورية تحظى بدعم من ممالك الخليج النفطية، وتركيا، والدول الغربية، لتنفيذ هذا المشروع. ومع ذلك، تثير المجازر التي وقعت بحق العلويين في آذار 2025، ومقتل مئات الدروز في ضواحي دمشق في أيار 2025، مخاوف جدية بشأن مستقبل هذه الفئات. فحكم الشرع لا يمتّ للديمقراطية بصلة، ولا هو جامع، رغم خطابه الظاهري عن التسامح مع الأقليات الدينية والإثنية.
الشرع عازم على إخضاع جبل الدروز، إذ يشكّل ذلك أمراً حاسماً لسمعته في نظر قواته، ولإنجاح مشروعه في إعادة توحيد البلاد بأسلوب سلطوي.
في 14 تموز، شنت قوات الشرع هجوماً واسعاً على السويداء باستخدام الدبابات والمدفعية والطائرات المسيّرة، حيث قصفت مواقع الدروز. تبع هذا الهجوم انتهاكات بحق المدنيين، إذ قُتل العشرات منهم فقط بسبب انتمائهم الديني الدرزي. تم إحراق المنازل ونهب المحال التجارية، في حين بثّت وسائل الإعلام التابعة للنظام الجديد فيديوهات تروّج لرسالة مطمئنة تُظهر قوات الأمن وهي تحمي المدنيين وتقتصر على استرجاع الأسلحة. وسلطت وسائل الإعلام الحكومية الضوء على ليث البلعوس، قائد ميليشيا “رجال الكرامة” الدرزية، الذي اتهم الجماعات الأخرى بأنها عصابات غير قانونية ومؤيدة للأسد. ودعا أفراد مجتمعه إلى تسليم أسلحتهم والترحيب بالجيش السوري الجديد. في الواقع، تم طرد هذا القائد الميليشياوي من جبل الدروز في أيار الماضي، لأنه اعتُبر خائناً لقضية الدروز. فقد تحالف مع الشرع منذ كانون الأول 2024، طامحاً لأن يصبح زعيم الدروز في سوريا وينتقم لمقتل والده، الذي قُتل في أيلول 2015 بسبب خيانته لنظام بشار الأسد.
يجب أن نتذكر أنه في ذلك الوقت، شكّلت العشائر الدرزية ميليشيات للدفاع عن جبل الدروز ضد هجمات المتمردين السنة، وداعش، وجبهة النصرة. واليوم، تلك الميليشيات نفسها التي تسيطر على المنطقة ترفض أن تُنزع أسلحتها من قبل من قاتلوهم سابقاً، وهو ما يفسر مقاومتهم الشرسة. لكن الشرع مصمم على السيطرة على جبل الدروز، إذ يَعُد ذلك أمراً حيوياً لسمعته أمام قواته ولنجاح مشروعه في توحيد البلاد بأسلوب سلطوي.
هل جبل الدروز والجولان وجهان لنفس الصراع؟
في الخارج، لا يواجه الشرع سوى العداء من قِبل إسرائيل، التي تفضّل رؤية سوريا فيدرالية، باعتبار ذلك ضمانة لحماية الأقليات ولإضعاف الدولة من الداخل. ورغم انفتاح النظام الجديد تجاه إسرائيل، ورغبته المعلنة في التفاوض على اتفاق سلام، بل وحتى في الانضمام إلى اتفاقات أبراهام، فإن القادة الإسرائيليين لا يُبدون أي ثقة به. فهم يعتبرون أن الشرع، الذي كان يحمل اسم “الجولاني”، لن يتخلى أبداً عن فكرة استعادة الجولان، وأنه بمجرد أن يثبت حكمه على سوريا موحّدة، سيُشكّل مصدر تهديد دائم لإسرائيل. في هذا السياق، تُعدّ حماية الأقلية الدرزية في سوريا شرطاً أساسياً لنزع السلاح في جنوب البلاد، وبالتالي لضمان أمن هضبة الجولان. وهنا تلتقي المصالح الاستراتيجية لإسرائيل مع التطلعات الاستقلالية للدروز السوريين، وتتقوّى هذه الرابطة بفعل التضامن القائم بين الدروز الإسرائيليين ونظرائهم في سوريا. وفي 16 تموز، ذهب الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، إلى حدّ دعوة أبناء طائفته من الجنود إلى رفض الخدمة العسكرية في حال لم تتخذ إسرائيل موقفاً جاداً لحماية الدروز السوريين. وقد تحوّلت قضية السويداء إلى مسألة داخلية تؤثّر على تماسك الائتلاف الحاكم في إسرائيل، الذي يعاني من أزمة بعد انسحاب حزب “يهدوت هتوراة” الرافض لإلزام الطلاب اليهود المتشدّدين بالخدمة العسكرية. وهو ما يخلق مفارقة صارخة، حيث يُطالب الدروز – الذين يخدمون بشكل فعلي في جيش الدولة اليهودية – بالحماية، في وقت تُعفى فيه جماعات أخرى من الخدمة..
إن حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية تراهن على مصداقيتها الداخلية والخارجية بالدفاع عن دروز سوريا. فالتخلي عنهم سيُعدّ هزيمةً، وقد يؤدي إلى مجزرة أسوأ مما تعرّض له العلويون في آذار الماضي. إن سقوط جبل الدروز بيد الشرع سيعزز من سطوته الكاملة في سوريا، إذ سيقدّم ذلك كـ “نصر على إسرائيل، حامية الدروز”. وقد يُطلق له العنان بعدها لمهاجمة الأكراد من دون أي رادع.
الولايات المتحدة سحبت جميع قواعدها من المنطقة الممتدة بين الحسكة ودير الزور، ويبدو أن هناك تبايناً واضحاً في المصالح بين تل أبيب وواشنطن بخصوص سوريا. ومع ذلك، فإن بنيامين نتنياهو لا يُبدي أي استجابة للدعوات إلى ضبط النفس، إذ إنه عندما يتعلّق الأمر بأمن إسرائيل، فإن حتى دونالد ترامب لا يستطيع كبحه. فهل سيتمكن الشرع من تقبّل هذا الإذلال؟
الهجوم الجوي على مبنى وزارة الدفاع في دمشق يشكل رسالة تحذير مقلقة.
ومن المثير للاهتمام أن نرى في الأيام المقبلة ما إذا كان الرئيس السوري قد بلغ حدود براغماتيته.
ترجمه إلى العربية أسامة حرفوش