يرأس فابريس بالانش قسم الجغرافيا في جامعة ليون 2. حاز على جائزة كتاب الجغرافيا السياسية عن كتابه “دروس الأزمة السورية” (باريس: أوديل جاكوب، ٢٠٢٤)

في ديسمبر/كانون الأول 2024، انهار نظام بشار الأسد فجأةً. وأصبح أحمد الشرع، زعيم جماعة هيئة تحرير الشام الإسلامية، رئيساً جديداً للدولة في سوريا. ورغم أن عملية الانتقال جرت في البداية دون حوادث، فقد ارتُكبت مجازر بحق العلويين في مارس/آذار 2025. ومع سعي مختلف القوى الأجنبية إلى توسيع نفوذها في البلاد، فإن استقرار سوريا بعيد المنال.

بوليتيك إيترانجير

أي مستقبل ينتظر سوريا؟ في ديسمبر/كانون الأول 2024، سارت عملية الانتقال على ما يُرام. كان انهيار الجيش السوري مفاجئاً: لم يواجه المتمردون أي مقاومة تُذكر من قوات النظام السابق. قد يظن المرء أن القوات العلوية، التي تنتمي إلى نفس طائفة عائلة الأسد، كانت ستدافع عن منطقتها خوفاً من الانتقام، لكن لم يكن ذلك واقع الحال.

ينبثق النظام الجديد من أحد أكثر أجنحة الثورة السورية تطرفاً: هيئة تحرير الشام، الفرع السوري السابق لتنظيم القاعدة. ورغم أن زعيمها، أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، قطع رسمياً جميع علاقاته مع أيمن الظواهري عام ٢٠١٦، إلا أنه لم يتخلَّ عن أيديولوجيته الإسلامية المتطرفة. ورغم الضمانات التي قُدِّمت بشأن احترام الأقليات وحقوق المرأة، يبدو أنه يفكر في إقامة جمهورية إسلامية.

في مارس/آذار 2025، شهدت مجازر المدنيين العلويين في المنطقة الساحلية على طبيعة النظام السوري الجديد، رغم محاولته إبراز صورة إيجابية بتعيين وزراء من الأقليات[1]. إن فرض الصرامة الإسلامية سيكون خطأً تكتيكياً، إذ سيدفع شريحة كبيرة من السكان إلى المعارضة. علاوة على ذلك، لا يسيطر سيد دمشق الجديد على كامل البلاد. لذا، عليه أن يكون فَطِناً إذا أراد استعادة الوحدة الوطنية.

نظام بشار الأسد كان مستنزَفاً

في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، كانت سوريا بشار الأسد قد استُنزِفت. حيث كان النظام يسيطر على ثلثي أراضيها بفضل 50 ألف مقاتل شيعي مدعومين من إيران. كما لعب حزب الله دوراً محورياً في حمايته، في حين كان الجيش السوري يعاني من الفوضى والإحباط ومُتخَم بالفساد. خدم المجندون والاحتياط بشكل عام سبع سنوات، ولم يوقع الرئيس مرسوماً بالإعفاء إلا بعد انقضاء هذه الفترة. ولكن لتجنب “نسيانهم” من قبل البيروقراطية والاستفادة من المرسوم، كان على الجنود الدفع لضباطهم. لكل شيء في الجيش ثمن: مكان في المكتب بدلاً من التواجد في الخطوط الأمامية، وامتياز البقاء في المنزل بدلاً من أداء الخدمة العسكرية، والإعفاء كمعيل للأسرة، إلخ. الرواتب بائسة: 10 إلى 20 يورو شهرياً للمجندين، و30 إلى 40 يورو للضباط، في حين أن الحد الأدنى لإعالة أسرة بالشكل الصحيح هو 200 يورو. كيف يمكن، في ظل هذه الظروف، منع الضباط من اختلاس المؤن وترك جنودهم في حالة مزرية؟ يعتمد الجرحى على عائلاتهم، التي تضطر لدفع تكاليف العلاج الباهظة، دون أي دعم آخر. يمكن لأرامل وأبناء “الشهداء” الحصول على وظائف في الخدمة المدنية، لكن رواتبهم لا تتجاوز 20 يورو شهرياً.

في بداية الصراع، اعتمد النظام بشكل كبير على الطائفة العلوية للدفاع عن نفسه. فر السنة بأعداد كبيرة، بينما رفض الإسماعيليون والدروز أداء الخدمة العسكرية خارج أراضيهم وفي الميليشيات المحلية التابعة لقوات الدفاع الوطني، وهي منظمة شبه عسكرية أُنشئت لتجنيد المدنيين. تُغطى جبال العلويين بصور الجنود الذين سقطوا في المعارك: لكل منطقة جدار “شهداء” خاص بها، مع ألواح بيضاء لتسجيل الأسماء الجديدة. تشير التقديرات إلى أن الطائفة العلوية فقدت ربع رجالها الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و50 عاماً. عشية سقوط النظام، كانت الطائفة قد استنزفت دماءها، والأهم من ذلك، أنها فقدت ثقتها ببشار الأسد، بينما كانت في بداية الصراع تعتقد أن النظام سيكون حصناً منيعاً ضد التطرف الإسلامي.

دخل النظام السوري في دوامة استغلال وقمع، أدت في النهاية إلى نفور آخر من تبقى من مؤيديه. وقع الاقتصاد السوري في أيدي قلة من الأوليغارشيين المرتبطين بعائلتي الأسد والأخرس – عائلة زوجة بشار الأسد. أثبتت أسماء الأسد، “وردة دمشق”، كما لُقّبت في وسائل الإعلام الغربية قبل عام ٢٠١١، أنها زعيمة مافيا مرعبة: فقد تولّى مكتبها الخاص فرض السيطرة المنظّمة على كبار التجار ورجال الأعمال بتكتم شديد. تُرك أصحاب المتاجر الصغيرة تحت رحمة المخابرات. أما من رفض الخضوع للابتزاز، فقد أُلقي به في السجن حتى يدفع. كما جُرّد رواد الأعمال بانتظام من مصانعهم وممتلكاتهم كجزء من “ارتباط” قسري بأحد أفراد الأسرة الحاكمة.

هل أدرك النظام أن نهايته قريبة وأنه بحاجة إلى إثراء نفسه قدر الإمكان لتمويل منفاه؟ أم أن شعوره بالقوة المطلقة والإفلات من العقاب قد غلب المنطق؟ بمصادرته ممتلكات السوريين بلا حدود، انتهك ما تبقى من العقد الاجتماعي. تخلى عنه آخر الموالين في النهاية، مما يُفسر أيضاً سبب عدم قتال الجيش في ديسمبر/كانون الأول 2024: ” هل كنتم تعتقدون أنني سأدافع عن ابن الزنا هذا؟” أسرّ[2] ضابط علوي للصحفي الأمريكي روبرت وورث.

لذا، لم تكن العقوبات الدولية هي التي عرقلت إعادة إعمار سوريا، بل سلوك النظام الوحشي. لا شك أن رواد الأعمال المقيمين في الخارج كانوا يخشون التعرض للعقوبات إذا أعادوا تنشيط شركاتهم في البلاد. كما لم تكن ظروف الإنتاج مثالية، مع نقص الكهرباء، وهجرة العمالة الماهرة إلى الخارج، وعودة تدابير تذكّر بسياسات الاقتصاد الموجه التي كانت سائدة في الثمانينات. ولكن الأهم من ذلك كله هو الانجراف المافيوي لعائلة الأسد-الأخرس الذي أغرق الاقتصاد في حالة كارثية. أضف إلى ذلك تزايد أعداد حواجز الطرق التي أقامتها الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، بهدف وحيد هو ابتزاز التجار، مما أدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع أسعار السلع.

كان بشار الأسد يأمل في الحصول على تمويل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من خلال إعادة ضمه إلى جامعة الدول العربية في مارس 2023، لكن هاتين الدولتين لم تكن لديهما أي نية لتحدي قانون قيصر[3]، وطالبتا سابقاً النظام بالتوقف عن إنتاج الكبتاغون. في الواقع، أصبح ماهر وبشار الأسد من كبار تجار المخدرات، حيث أنتجا ما يقرب من 10 مليارات دولار من المخدرات، والتي صُدِّرت بشكل رئيسي إلى دول الخليج. وهنا مرة أخرى، اعتقد بشار الأسد أن الوقت في صالحه وأنه يمكنه الحصول على عشرات المليارات من الدولارات كتعويضات من المملكة العربية السعودية – فقد افترض أن النظام السعودي مسؤول عن تدمير سوريا لأنه موّل نشر الجهاديين ودعم التمرد. كان الديكتاتور السوري قد فقد منذ فترة طويلة إحساسه بالواقع، معزولاً في يقينياته ومحاطاً بحاشية صغيرة من المتملقين الذين عززوا تصميمه على عدم التنازل عن أي شيء لأحد.

الضربة القاضية

لم يسقط نظام بشار الأسد في اثني عشر يوماً، بل بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي. وكانت حروب إسرائيل[4] الإقليمية هي التي سحقته في النهاية، والتي تسببت برحيل عشرات الآلاف من رجال الميليشيات الشيعية الذين كانوا يحمونه. أما سلاح الجو الروسي، فقد كان محاصراً بالتأكيد في أوكرانيا، لكنه ما كان ليتمكن من وقف تقدم المتمردين لو عجزت القوات البرية عن احتوائهم.

استولت هيئة تحرير الشام على حلب، كاسرةً خطاً دفاعياً كان قد صمد طوال الحرب الأهلية، حتى في ظروف كانت أصعب على جيش بشار الأسد. فتحت شاحنتان يقودهما انتحاريان ثغرة في تحصينات للجيش السوري، تماماً كما حدث في معركة الراموسة[5] عام 2016، لكن حزب الله لم يعد موجوداً لسدها. تفرقت القوات الموالية للسلطة على الفور وفرّت جنوباً. لم يتم إنشاء أي خط دفاعي في المدينة كما في تموز/يوليو 2012. تقدم المتمردون، الذين فوجئوا بانتصارهم، نحو حماة، التي تم الاستيلاء عليها بسرعة. على الرغم من أن المدينة لم تشهد انتفاضة في عام 2011 خوفاً من مواجهة نفس مصير عام 1982، عندما فقد 30 ألف شخص أرواحهم، إلا أنها ظلت معادية بشدة لنظام الأسد.

في جنوب سوريا، شنّت قوات أحمد العودة، القائد المتمرد الذي انضم إلى نظام الأسد، هجوماً على دمشق إلى جانب ميليشيات السويداء الدرزية. إلا أن الأخيرة قررت التركيز على تأمين بلدات جرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز الدرزية، كما كانت قد فعلت في جبل الدروز. بعد الاستيلاء على حمص، حيث واجهت الوجودَ العلوي القوي بعضُ المقاومة، وصلت هيئة تحرير الشام إلى دمشق. تجنب أحمد العودة المواجهة مع هيئة تحرير الشام وانسحب إلى قاعدته في درعا. افتقر متمردو الجنوب إلى التسليح والانضباط مقارنةً بميليشيات هيئة تحرير الشام.

في الشمال الشرقي، سيطرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مؤقتاً على وادي الفرات الجنوبي، ولكن في مواجهة عداء القبائل، انسحبت حتى قبل وصول هيئة تحرير الشام إلى المنطقة. علاوة على ذلك، كان عليهم مواجهة تقدم الجيش الوطني السوري نحو جيب تل رفعت ومنبج الكردي، غرب نهر الفرات. فشلت محاولة فتح ممر بين منبج وتل رفعت. أُجبر مئات الآلاف من الأكراد على الفرار شرق الفرات. وكان من بينهم العديد من النازحين من عفرين في عام 2018، والذين واجهوا بالتالي منفىً ثانياً. في أوائل يناير 2025، تخلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن مدينة منبج السورية. كان الجيش الوطني السوري، مستفيداً من الدعم العسكري التركي، يخطط لعبور نهر الفرات للاستيلاء على مدينة كوباني الكردية، ولكن تم إنقاذ كوباني بفضل التدخل الأمريكي. عززت الولايات المتحدة قواتها في سوريا، ولا سيما من خلال نشر 1000 جندي إضافي من القوات الأميركية المتواجدة أصلاً في العراق، وهددت بفرض عقوبات اقتصادية على أنقرة.

تم إجلاء الميليشيات الشيعية العراقية المتبقية في سوريا عبر قاعدة حميميم الروسية، التي وصلوا إليها في قافلة تحت الحماية الروسية، وفقاً لتفاهمات الدوحة المبرمة في 7 ديسمبر 2024، بين روسيا وإيران وتركيا. ضمنت تركيا عدم فقدان شركائها السابقين في مجموعة أستانا ماء الوجه في سوريا وعدم تعرض قواتهم لهجوم من قبل قوات هيئة تحرير الشام. من جانبهم، فرّ أغنى كوادر النظام المخلوع إلى لبنان، بينما لجأ الآخرون إلى المنطقة العلوية، حيث كانوا يأملون في الاستفادة من الحماية. صحيح أن دخول هيئة تحرير الشام قد تحقق دون نهب أو فظائع، مما منح الفارّين بعض الأمل في المستقبل، لكن مذبحة آلاف المدنيين العلويين في المنطقة الساحلية في مارس 2025 أظهرت عكس ذلك.

نحو الجمهورية الإسلامية

في ١٠ ديسمبر ٢٠٢٤، تسلّم أحمد الشرع السلطة رسمياً من رئيس وزراء بشار الأسد السابق لمدة ثلاثة أشهر. ووعد بإطلاق عملية دستورية وحوار وطني لإضفاء الشرعية على حكمه. وفي ٢٩ كانون الثاني/يناير، فرض نفسه رئيساً للدولة أمام جمهور من القادة العسكريين.[6]

عُقد الحوار الوطني، الذي أُعلن عنه عدة مرات، أخيراً يومي 24 و25 فبراير/شباط. إلا أن تنظيمه أثار تساؤلات: إذ وُجهت الدعوات في اليوم السابق، مما لم يُتِح وقتاً كافياً للمعارضين في الخارج للسفر إلى دمشق. وهيمنت البنية الهرمية على المناقشات، مما دفع السوريين إلى وصفها بـ “المونولوج الوطني”. كيف كان من الممكن أن يكون الأمر غير ذلك، وهو صادر عن زعيم تنظيم إسلامي متطرف تدرب مع القاعدة والدولة الإسلامية في العراق؟ كيف يمكن لأحد أن يتخيل أنه يستطيع تغيير مساره وهو على رأس بلد لم يعرف سوى المركزية والشخصنة المفرطة للسلطة؟ يؤكد الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار 2025 هذا الأمر فقد أُلغي منصب رئيس الوزراء، وأصبح أحمد الشرع رئيساً للدولة والحكومة، مما يعزز عمودية السلطة.

لتعزيز سلطته، اعتمد على شخصيات سياسية وعسكرية قضت عدة سنوات في معقل المتمردين في إدلب. خلال الحرب الأهلية، كانت هذه المدينة الواقعة في شمال غرب سوريا مركزاً لظهور معارضة وطنية حقيقية، وهو ما كان غائباً في بداية الانتفاضة في عامي 2011 و2012. كانت كل من الجماعات المتمردة والمعارضة السياسية متجذرة في المجتمعات المحلية. وكانت الهياكل الموحدة موجودة في الخارج، سواء في مقر الجيش السوري الحر أو الائتلاف الوطني السوري، مما أعاق استراتيجيتهم الوطنية. على العكس من ذلك، في إدلب، رحبت هيئة تحرير الشام بالمسلحين والمقاتلين الذين قدموا من جميع أنحاء البلاد بحثاً عن ملاذ آمن، بعد طردهم من المناطق التي استعادها النظام (درعا، غوطة دمشق، حمص، شرق حلب، إلخ)، وأدمجتهم في صفوفها. تجدر الإشارة إلى أن جبهة النصرة كانت الجماعة المسلحة الوحيدة الموجودة في جميع أنحاء سوريا والمنخرطة في تحالفات المتمردين. إلا أن قربها من تنظيم القاعدة منع مؤيدي المعارضة السورية من الاعتماد عليها لتعزيز بنيتهم. وبالفعل، أضافتها الولايات المتحدة إلى قائمة المنظمات الإرهابية في ديسمبر/كانون الأول 2012، وتلتها فرنسا في مايو/أيار 2013.

بينما يعيش أعضاء الحكومة السورية الجديدة في إدلب منذ عدة سنوات، إلا أنهم ينحدرون من مناطق مختلفة من البلاد. تُتيح أصول أحمد الشرع الدمشقية له قبولاً أفضل لدى سكان العاصمة، فعلاقات الجوار والصداقة تُتيح لهم التواصل المباشر مع عائلة رئيس الدولة وحاشيته، مما يُسهّل حل المشكلات. وقد روى رائد أعمال سوري للكاتب كيف استعاد، بفضل علاقاته الشخصية مع عائلة الشرع، مصنعاً كان قد استولى عليه ابن أخت بشار الأسد بشكل غير قانوني. وينطبق الأمر نفسه على المحافظات، حيث أن المحافظين الجدد وكبار المدراء هم من أبناء المنطقة الذين انضموا إلى هيئة تحرير الشام في إدلب خلال النزاع. وبفضل معرفتهم العميقة بالمنطقة، يسهل الوصول إليهم، مما يُسهم بشكل كبير في تحسين العلاقات مع السكان. علاوة على ذلك، تُمكّنهم خبرتهم من حل القضايا المتعلقة بالسكن غير القانوني والممتلكات المصادرة بسرعة، وهي مصدر قلق كبير لكثير من المواطنين. ومع ذلك، خارج هذه الحالات الطارئة، تبدو قدرتهم على إدارة وإعادة بناء المحافظة الواقعة تحت مسؤوليتهم محدودة للغاية.

يمكن لأحمد الشرع الاعتماد على ولائهم للسيطرة على البلاد. في الواقع، تُشكّل الولاءات الشخصية أساس النظام السياسي والعسكري والإداري. القائد الجديد مقتنع بضرورة الاعتماد حصرياً على الدائرة المقربة من المجلس الأعلى للدفاع، الذين يعلم أنهم مخلصون له. وُلدت عصبية جديدة في إدلب خلال الحرب، وهذه الجماعة هي التي تستولي على المُلك، بتعبير ابن خلدون[7]. ومع ذلك، ففي بلد يبلغ عدد سكانه 20 مليون نسمة، ويمكن أن يأوي 28 مليوناً إذا عاد اللاجئون، يثبت النظام المركزي، بالإضافة إلى المحسوبية الشخصية، عدم ملاءمته للإدارة الفعالة. في ظل هذه الظروف، يُخشى من عودة الهدر والتخلف. فإعادة إعمار البلاد تتطلب استجابة واستقلالية محلية، دون إغفال حكومة شاملة أساسية على المستوى الوطني تسمح بمشاركة جميع الطوائف، وخاصة العلويين الذين يجدون أنفسهم منبوذين.

التطهير العرقي للعلويين

إن غياب المقاومة من جانب الوحدات العلوية في الجيش السوري – الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد – على الأقل لحماية المنطقة الساحلية، يثير تساؤلات. طوال الحرب الأهلية، قاومت المنطقة العلوية[8] ثورات الجيوب السنية، مثل بانياس وسلمى، وهجوم المتمردين من إدلب ووادي الغاب. يمكن للمرء أن يتصور أنه في حال سقوط النظام في دمشق، فإن العلويين سيشكلون معقلاً ساحلياً، معتمدين على المنحدر الشرقي لسلسلة الجبال. إن وجود محطة حرارية للطاقة ومصفاة في بانياس من شأنه أن يحل مشكلة الطاقة، شريطة أن تزودها روسيا وإيران بالنفط. أما بالنسبة للموارد المائية، فهي وفيرة وتسمح بدعم الزراعة القادرة على تلبية احتياجات السكان. وأخيراً، يُعد الانفتاح البحري مورداً كافياً لضمان حياة المنطقة.

إلا أن ذلك كان هذا سيتطلب من عائلة الأسد نفسها تنظيم رحيل منظم بدلاً من النفي. في ظل حكم الأسد، فقدت الطائفة العلوية بنيتها القبلية والدينية التقليدية. حوّلها حافظ الأسد إلى كتلة واحدة في خدمة نظامه، ولتحقيق ذلك، تم القضاء على أي قوة مضادة داخل الطائفة[9].

كان الوضع مختلفاً بالنسبة للدروز. فقد اعتمدت استراتيجية النظام تجاههم سياسة “فرّق تسد”، وبالتالي، تفضيل الحفاظ على التسلسلات الهرمية التقليدية. وبهذا، تمكّن الدروز من تنظيم أنفسهم في ميليشيا للدفاع عن النفس منذ عام ٢٠١٢، مما مكّنهم من منع هيئة تحرير الشام من احتلال أراضيهم في ديسمبر ٢٠٢٤. ورغم استفادة هذه الطائفة من الحماية الإسرائيلية منذ إعلان بنيامين نتنياهو[10] أن جنوب سوريا يجب أن يكون منزوع السلاح وخالياً من وجود هيئة تحرير الشام، إلا أن ذلك لن يكون فعالاً دون دعم قوة عسكرية محلية.

يبدو أن النظام الجديد يريد تجنب تكرار سيناريو الدروز في المنطقة العلوية. فالقاعدة الروسية في حميميم، بالقرب من جبلة، لا تزال مفتوحة. في نهاية الحرب في أوكرانيا، ربما تعود روسيا إلى سوريا، مستغلة عداء العلويين للنظام الإسلامي. بعد فترة الفوضى، بدأت الكوادر العسكرية للنظام السابق في تنظيم الميليشيات. ففي 6 آذار/مارس 2025، نصبت المقاومة الشعبية السورية بقيادة مقداد فتيحة، القائد السابق في الحرس الجمهوري، والمجلس العسكري لتحرير سوريا كميناً لقوات هيئة تحرير الشام في منطقة جبلة. وفقاً للنظام الجديد، فإن هذا التمرد الذي نظمه الموالون لبشار الأسد يفسر سبب اضطراره إلى إرسال قوات إلى المنطقة الساحلية، مما أدى للأسف إلى انتهاكات ضد المدنيين. تم نشر هذا التفسير الرسمي على نطاق واسع في وسائل الإعلام وأصبح في النهاية النسخة السائدة.

في الواقع، وقعت الكمائن رداً على تزايد الاعتقالات والاغتيالات التي تستهدف العلويين. وبينما لا تنوي الكوادر السابقة للنظام القديم تسليم أنفسهم للاعتقال – فهم يعرفون المصير الذي ينتظرهم – إلا أنهم يفتقرون إلى أي قدرة هجومية قد تشكل أي خطر. كان هذا التمرد المزعوم مجرد ذريعة لتبرير الوحشية التي أُطلقت في المنطقة العلوية. في الواقع، بدأت الحملة في 4 آذار/مارس في اللاذقية. في الليلة السابقة، ورد أن أعضاء من هيئة تحرير الشام قُتلوا بالقرب من الدعتور، وهو حي علوي شعبي في اللاذقية. رداً على ذلك، حاصرت المجموعة المنطقة وهاجمتها بالأسلحة الثقيلة في الصباح الباكر[11]. ثم دخلت شاحنات صغيرة الحي، وأطلقت النار عشوائياً على الواجهات ونادت السكان بالخنازير. وبحسب ما ورد غادرت عدة شاحنات صغيرة المكان وهي تحمل جثثاً.

في الخامس من مارس/آذار، ألقت مروحيات قنابل على قرية الدالية العلوية، شرقي بانياس. وأعادت هذه الحادثة المأساوية إلى الأذهان براميل الديناميت التي ألقتها قوات الأسد على حلب. تُعدّ الدالية مزاراً علوياً شهيراً، يضم نحو مئة ضريح، وشيوخاً مرموقين يُعلّمون الدين فيها، وهي ليست قريةً زوّدت النظام بكوادر عسكرية. الهدف من هذين الهجومين كان بوضوح استهداف الطائفة العلوية.

في السادس من مارس/آذار، تدفقت أرتال من شاحنات بيك أب تابعة لهيئة تحرير الشام وحلفائها إلى المنطقة الساحلية، ثم حاولت غزو الجبال. عند هذه النقطة، واجه بعضهم كمائن. تزايدت عمليات قتل المدنيين في الجبال، وكذلك في مدينة بانياس، حيث شهد حي القصور العلوي مذبحة حقيقية. وبلغت الحصيلة غير الرسمية للقتلى هناك 317 قتيلاً[12].

الحصيلة النهائية للقتلى العلويين في المنطقة الساحلية حتى مارس/آذار 2025 غير مؤكدة. بعد أسبوعين من هذا الحدث المأساوي، يُقدّر المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 2000 مدني بين 6 و9 مارس/آذار. استمرت الانتهاكات بعد ذلك، على الرغم من تراجع حجمها. وتشير مصادر غير رسمية أخرى إلى مقتل ما يقرب من 5000 شخص. لذلك، يُمكن اعتبار عدد الضحايا البالغ 2000 الذي أحصاه المرصد[13] تقديراً أدنى.

يُظهر التوزيع الجغرافي للمجازر، وفقاً للمصدر نفسه، أن المنطقة الشمالية من السهل الساحلي، بين بانياس واللاذقية، تكبدت أكبر عدد من الخسائر. استهدف الجهاديون بانياس تحديداً، التي أصبحت بؤرة العنف. أما جبال العلويين الجنوبية، فقد عانت من عدد أقل من الضحايا، لا سيما في محافظات طرطوس وصافيتا ودريكيش والشيخ بدر. وشهدت قرى في جبال العلويين المرتفعة مجازر أيضاً، ولكن ليس بحجم تلك التي وقعت على الساحل. توفر التضاريس حماية طبيعية، وقد حرص وكلاء هيئة تحرير الشام على عدم الاشتباك هناك. إن تركيز المجازر على الساحل، الذي يسهل الوصول إليه براً، بين اللاذقية وبانياس، يُظهر مسؤولية السلطات السورية الجديدة: فمن المؤكد أنها كانت على دراية بما يحدث في منطقتها. لذلك، عَمِلت ما يُسمى بالمجموعات “غير النظامية” تحت إشراف – أو على الأقل بتسامح من – قوات الأمن الجديدة.

مارس مرتكبو المجازر عنفاً عشوائياً، فقتلوا النساء والأطفال وكبار السن دون تمييز. وكان معظم الضحايا من الشباب، ليس بسبب ماضيهم أو انتمائهم المحتمل إلى الجيش أو أجهزة مخابرات النظام السابق، بل لأن الهدف النهائي كان استئصال الطائفة العلوية. منذ بداية مارس/آذار، يتعرض العلويون في دمشق وحمص للتنمر. وفي ريفي اللاذقية وطرطوس، تتواصل عمليات الإعدام الميداني، بذريعة مكافحة مؤيدي الأسد. وهذا في الحقيقة تطهير عرقي يستهدف طائفة يُشتبه في تعاونها مع النظام السابق، بدافع الكراهية الدينية.

غياب التوافق الدولي وتقسيم البلاد

أثارت مذبحة العلويين قلقاً بالغاً، لكن في مؤتمر المانحين في بروكسل، بتاريخ 17 مارس/آذار 2025، لم يُحمّل الأوروبيون أحمد الشرع مسؤولية تُذكر. مع ذلك، رأى الشرع أنه من الحكمة عدم حضور المؤتمر، رغم كونه ضيف الشرف، مُفضّلاً تجنّب الأسئلة المُحرجة والمظاهرات المعادية.

بين الخوف من سيناريو على غرار السيناريو الليبي والخوف من تولي شخص أكثر تطرفاً السلطة، يعتقد الأوروبيون، بمن فيهم فرنسا، أنه (أي أحمد الشرع) الخيار الأقل سوءاً لسوريا[14]. أما واشنطن، الأكثر تحفظاً، فتطالب بضمانات قبل رفع العقوبات المفروضة على البلاد. يريد الأمريكيون تفكيك الترسانة الكيميائية السورية، التي لم يفككها بشار الأسد بالكامل، رغم تعهداته. كما يطلبون من الشرع التخلص من الجهاديين الأجانب، لا ترقيتهم إلى قيادته العسكرية العليا[15]. قد تكسب الولايات المتحدة قضيتها المتعلقة بالأسلحة الكيميائية، لكن الأمر يبدو أكثر إشكالية فيما يتعلق بالقضايا الأخرى.

من بين دول الشرق الأوسط، تدعم تركيا أحمد الشرع بقوة، وكذلك قطر، التي زار أميرها دمشق شخصياً لتهنئته. من جانبها، تُبدي المملكة العربية السعودية حذراً من الرجل ومن الجمهورية الإسلامية التي ينوي فرضها، إذ قد يُعيد ذلك إحياء الاحتجاجات التي اندلعت مع انطلاق الربيع العربي، والتي استغلها الإخوان المسلمون ضد الأنظمة الملكية القديمة والنظام المصري. تُعدّ الإمارات العربية المتحدة الأكثر عداءً لسيد دمشق الجديد، وهو ما يُشكّل جزءاً من تنافسها الإقليمي مع قطر وتركيا. فأبو ظبي تدعم الميليشيات السنية في درعا ضد هيئة تحرير الشام[16]. وتتناقض استراتيجيتها مع استراتيجية إسرائيل، التي، بعد أن ساهمت في سقوط بشار الأسد وبالتالي انهيار المحور الإيراني، تسعى إلى منع ظهور جمهورية إسلامية قوية.

أخيراً، روسيا وإيران لم تستسلما فيما يخص التأثير على مجرى الأحداث في سوريا. موسكو، صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي، قادرة على شلّ المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة. أما طهران، فلديها شبكات في سوريا قادرة على شن هجمات. من العراق ولبنان، لا تزال إيران تتمتع بقدرة كبيرة على إلحاق الضرر. لم تُبدي السلطات في طهران وموسكو ارتياحها للدعم التركي لهيئة تحرير الشام، وينبغي على أنقرة أن تتوقع إجراءات انتقامية في سوريا أو غيرها من ساحات العمليات. لذلك، ينبغي على أردوغان أن يسعى للحفاظ على مصالح هاتين الدولتين، وهو ما قد يُفسر بقاء القاعدة الروسية في اللاذقية. اتفاقيات السلام مع حزب العمال الكردستاني، التي تُفيد أيضاً الأكراد السوريين، تمنعهم من الانجذاب باتجاه التقدمات الإيرانية.

في نهاية المطاف، لا يوجد إجماع دولي حول مستقبل سوريا، التي لا تزال عالقة في دوامة الأزمات بين الغرب والمحور الأوراسي (إيران وروسيا والصين). كما تشهد البلاد تنافسات بين القوى الإقليمية، بقيادة تركيا والسعودية وإسرائيل. تُبقي هذه الصراعات البلاد منقسمة، في ظل استمرار دعم الجهات الخارجية لحلفائها. أي محاولة لإعادة الإعمار في ظل هذه الظروف محكوم عليها بالفشل، ولن تؤدي إلا إلى تدهور الوضع الاقتصادي واستئناف الأعمال العدائية بين الفصائل.

يثير مشروع أحمد الشرع المركزي معارضة الأقليات وجميع السكان الذين اعتادوا على الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع. لا شك أن استعادة الأمن هي الشغل الشاغل لغالبية السوريين، وليس لأمراء الحرب أو الميليشيات الذين يعتاشون من عدم الاستقرار. ومع ذلك، فإن تحييدهم يتطلب أولاً توافقاً دولياً حقيقياً، كالذي حصل في لبنان لإنهاء الحرب الأهلية. وقد سهّل هذا التوافق انهيار الاتحاد السوفيتي، والهيمنة الغربية العالمية، وانعدام الاستقلال الاستراتيجي للقوى الإقليمية. أما سياق عام 2025، فهو مختلف تماماً، ويُعقّد حل الأزمة السورية بشكل كبير. ورغم أنه قد لا يشبه السيناريو الليبي، إلا أن نهاية الأزمة ستكون فوضوية وإسلامية. ويبدو أن البلاد عالقة في فخ الصراع الدائم.

ترجمة أسامة حرفوش

  1. تضم الحكومة السورية المُعيّنة في 29 مارس/آذار 2025 وزيراً علوياً للنقل، ووزيرةً مسيحية للشؤون الاجتماعية والعمل، ووزيراً درزياً للزراعة، ووزيراً كردياً (من دمشق) للتربية والتعليم. إلا أن هؤلاء الوزراء مجرد وزراء تنفيذيين، حيث تتركز السلطة في أيدي الرئيس ومجلس الدفاع الوطني.
  2. ر. وورث، ” هل يستطيع رجل واحد أن يُبقي سوريا موحّدة؟”، ذا أتلانتيك، 24 آذار/مارس 2025
  3. في عام 2018، فرضت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات على النظام السوري، تحت عنوان “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا”، في إشارة إلى التقرير الذي أدان التعذيب والإعدامات الجماعية في سجن صيدنايا.
  4. شارل كاراسكو “فابريس بالانش: بشار الأسد يواجه خطر الجرف بفعل عملية التطهير الإسرائيلية الكبرى”، ليكسبريس، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
  5. بالانش، «حلب: هل التحول مستدام للمتمردين؟»، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 9 أغسطس/آب 2016، متاح على: www.washingtoninstitute.org.
  6. أحمد شعراوي (مؤتمر انتصار أحمد الشرع: عهد سوريا الجديد وترجمة حصرية لـخطاب الشرع)، مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، 30 كانون الثاني/يناير، متوفر على: www.fdd.org
  7. إيف لاكوست، ابن خلدون. ولادة التاريخ، ماضي العالم الثالث، باريس، دار لا ديكوفرت، 2009.
  8. فابريس بالانش، المنطقة العلوية والسلطة السورية، باريس: دار كارتالا، 2006.
  9. آلان شوي، “الفضاء القبلي العلوي أمام اختبار القوة”، دار المغرب-المشرق، المجلد 1، العدد 147، 1995.
  10. “إسرائيل تطالب بـ “نزع السلاح الكامل من جنوب سوريا”، صحيفة لوفيغارو، ٢٣ شباط/فبراير ٢٠٢٥، متاح على: www.lefigaro.fr.
  11. اتصل بي معارفي المقيمون في اللاذقية والمناطق المحيطة بها فور سماعهم الخبر. شاهدتُ صورًا ومقاطع فيديو تُثبت أن العنف ضد العلويين قد بدأ بالفعل.
  12. هيلين سالون، “الطائفة العلوية في بانياس في سوريا تروي الجحيم وتحصي قتلاها: “الناجون هم أولئك الذين أخفتهم العائلات السنية”، لوموند، 13 مارس/آذار 2025.
  13. “مع توثيق المزيد من المجازر، تجاوز عدد القتلى خلال العمليات الأمنية على الساحل السوري 2000 قتيل” المرصد السوري لحقوق الإنسان، 17 مارس 2025، متاح على: www.syriahr.com
  14. نقاشات غير رسمية مع عدد من الدبلوماسيين الأوروبيين، شباط/فبراير وآذار/مارس 2025.
  15. ” يُقال إن واشنطن قد سلّمت سوريا قائمة من المطالب تمهيداً لتخفيف العقوبات”، تايمز أوف إسرائيل، 26 مارس 2025، متاح على: https://fr.timesofisrael.com.
  16. “أحمد العودة، رجل النفوذ في جنوب سوريا”، ذا سيريَن أوبزرفر، 5 شباط/فبراير 2025